الشهيـد
الشيخ سي حمـود مـني
المولد والنشأة :
هو حمود بن عليّ بن الطاهر بن عبد الله بن بلقاسم بن الفني لقب عائلته مني،ولدته حدة بنت العربي ولد سنة 1914 بمشتة "الحَمَّار" بالضاحية الشمالية لبلدة رأس الماء بلدية قجال .تعلم القراءة والكتابة ،وقرأ القرآن في بيتهم , ثم انتقل إلى زاوية قجال حيث ختم القرآن حفظا ورسما،وواصل دروس الفقه عند الشيخ المختاربن الشيخ رحمه الله ، رفقة صديقه وأحب الناس إليه الشهيد عبد الحميد حمادوش .
صفاته وأخلاقه :
كان الشهيد سي حمود- رحمه الله – ضعيف البنية نحيف الجسم ،متوسط الطول ، خفيف الحركة سريع المشية .وكان متواضا لينا، شديد الحياء ، إذا تكلم لايكاد يُسمع جليسه، لاترى على وجهه أثرا من العبوس أو النفور، بل هي الابتسامة تكسو دائما محياه .وكان طيب القلب ،حلو المعشر، حسن المعاملة ،وضعت له المحبة في الأرض فحيثما حل وارتحل كان له أصدقاء ومحبون في القرية وفي المدينة وفي الصحراء ،مماجعله يكون محل ثقة الناس، ومودع أسرارهم وأماناتهم وضامن عهودهم ومواثيقهم ، وكان رحمه الله شديد التعلق بالأطفال ؛ يعطف على أصغرهم ،ويقدر من بلغ منهم الرشد،ويكرم يتيمهم . مازلت أذكر إلى اليوم احتفاءه بي حيث كنت يتيم الأب ،وكان أبي- رحمه الله – من أصدقائه فلا تمرمناسبة عيد، أو موسم إلا ويأتيني بهدية ،يقدمها لي مربِّتاً على رأسي ،داعيا لي بالتوفيق والسداد.
سي حمود شيخ العائلة :
كانت حياة سي حمود ، كسائر القرويين الجزائريين، يعيشون على الفلاحة ، وتربية المواشي .يشتغل مع إخوته الإربعة( الشيخ العيد، والشهيد محمد ،والبشير، والميلود ) الذين سلموا له أمر تدبير شؤون الفلاحة والبيت ،فكانوا لايقطعون أمرا دونه ، وكان هو بدوره يستشيرهم في كل صغيرةوكبيرة . فليس من عُرْفِ شيخ العائلة في الريف الجزائري الاستبداد بالرأي ، كما أن بقية أفراد العائلة، ليس من شيمهم المنازعة والمعارضة بدون وجه صواب أو ضرورة مُلِحَّة . كانت هذه هي طبيعة أغلب العائلات الريفية الجزائرية .طاعة كبير العائلة وشيخها واجبة ، لا، لكبر سنه فحسب ، ولا، لأنه كبيرالإخوة فحسب.لأن شيخ العائلة هذا لم يأت من فراغ ،وإنماأهلته لهذا المنصب استعدادته الفطرية من حكمة، ورزانة، ورجاحة عقل، وبعد نظر،وشجاعة ، واستعداد للتضحية وإيثار لحاجات أفراد العائلة على حساب حاجاته الشخصية .هذه الصفات التي لم يقرأها الشيخ حمود وغيره من شيوخ العائلات في المدرسة، ولم يتلقها دروسا في معهد ، وإنما كانت فيه استعدادا فطريا، هيأت لها العائلة بجميع أفرادها رجالا ونساء الأجواء الملائمة لنموها في نفسه . فمنذ صغره يكون محل نظر، وتوجيه ،وإرشاد فإذا مابلغ سن الرشد وجد السبيل أمامه مفتوحا للتدرج، في سلم تحمل مسؤولية العائلة .لقد كانت هذه هي إحدى الدعائم القيمية التي حفظت للأمة الجزائرية تماسكها الأسري والاجتماعي .
تزوج سي حمود السيدة فاطمة بنت الشيخ إبراهيم عيادي ،فأنجبت له ولدين هما : العياشي وإسماعيل وبنتا واحدة .
انخراطه في الثورة :
كان من أبرز أصدقاء الشهيد سي حمود الشهيدعبد الحميد حمادوش .حيث توطدت العلاقة بينهما منذ أمد بعيد ،كان لقاءهما يكاد يكون يومي ،خاصة في بداية الثورة التي كانت تتسم حركة انتشارها الأولى بكثير من السرية والكتمان والحذر والتدقيق في اختيار الرجال الذين سيتحملون عبء القيادة والتسيير والتنظيم . فقد اقتصر العمل الثوري في أول الأمربمنطقتنا على جمع الأسلحة من المواطنين، الذين كانوا يملكون بعض الأسلحة الخفيفة، كبنادق الصيد والرشاشات ونظرا للثقة التي كان يتمتع بها سي حمود عند المواطنين، تولى جمع الأسلحة، التي كانت تُجْمع عند الشيخ عبد الحميد حمادوش الذي يسلمها بدوره إلى المجاهد محمد علي بن المداني الذي يتولى نقلها إلى الثوار بجبل بوطالب . كان هذا العمل في بداية الثورة .
لما تكونت اللجنة الثورية الأولى لناحية قجال في سنة 1956 برئاسة الشهيد علي كفي (شهرته عليّ بن الزايدي) كان سي حمود أحد أعضائها ،وشغل منصب أمين المال . ولكن نظرا لما كانت تتطلبه أعمال اللجنة من حهد وصحة،وقدرة على التحمل ،كان يفتقدها كل من سي حمود وسي علي بن الزائدي، استقالا من منصبيهما وعوضا بآخرين ،وبقي سي حمود يعمل عملا سريا يتعلق من جهة بمراقبة الخونة المندسين في صفوف الشعب، ومن جهة أخرى بمراقبة السلوكات المنحرفة لبعض المجاهدين، مع المواطنين أوعائلاتهم ، التي كثيرا ماأدت إلى نتائج عكسية وخطيرة ، شوهت صمعة المجاهد ، وأساءت إلى شرف عائلات محترمة ،وكانت سببا في انحراف بعض المخلصين الذين أدت بهم ردود الفعل الغاضبة إلى اللجوء للعدو .
ليلة القبض على الشهيد سي حمود :
في الليلة التي التحق فيها الشيخ عبد الحميد حمادوش بالثوار، بعد محاولة اعتقاله من قبل العدو الفرنسي،التقى بسي حمود، وبات معه ليلتين في مخبإ بعيد عن القرية رفقة تسعة من الجاهدين. وفي صباح اليوم الثالث قال سي حمود لابن عمه الربيع فني :أنا الليلة سوف( أتسرب) - يعني أخرج معك خفية- ولا أتسرب مع مسؤول الفدائيين كعادتي .وكان من عادة المجاهدين الاختباء في النهار في المخابئ ،والخروج ليلا للقيام بمهامهم المنوطة بهم، كل حسب اختصاصه السياسي ،أو الفدائي ،أو العسكري إلى آخره .
كان المخبأ في مكان يسمى غار " الخلاوي ". بات فيه سي حمود واثنان من رفاقه :الربيع فني ،وعبد الحميد بلوط . أما سي حمود فلم يكن معه سلاح لأنه مدني ، وأما الربيع فني فإنه لم يكن يملك يومها إلاَّ "فوشي"- عصا غليظة – وكان دائما يقول :أنا لا،ولن ، أمكن الاستعمار من نفسي حتى يقبض علي أويضربني بيده النجسة، بل سأضرب حتى أموت. وأما عبد الحميد بلوط فكان عنده (ماط ) .
وفي الصباح الباكر باغت جنود العدو الجماعة في المخبإ المذكور، وألقى القبض على كل من سي حمود وعبد الحميد بلوط الذي استسلم دون قتال ، أما الربيع فني فرفض الخروج من الغار، وأخذ يقاوم كل من يحاول من جنود العدو دخول الغار للقبض عليه حتى قتل رحمه الله .
خضع سي حمود لعمليات تعذيب واستنطاق قاسية ، فاعترف أنه شارك في العمل الثوري ،ولكنه تخلى عنه منذ مدة طويلة ،وعلل عدم تسليم نفسه بالخوف من العسكر الفرنسي .وعن سؤال حول الذين كان يعمل معهم .قال لهم : أنا أعرف كل مواطني منطقتنا وغيرهم من مناطق مختلفة من الوطن .
بعد عملية الاستنطاق ،جاؤوا به مغطى الرأسن بحيث لا يمكن التعرف عليه ،وعرضوا عليه جمعا غفيرا من المواطنين كان من بينهم أكثر من عشرين مجاهدا نطاميا وفدائيا ومسؤولا .ولكنه لم يعترف للعدو بأحد منهم .
وكان هذا الموقف الثابت الصادق الشجاع من سي حمود مبعث ارتياح كبيرمن رجال الثورة والمواطنين. وانتشرت الأخبار أن سي حمود عرض عليه أكثر من عشرين مجاهدا ،ولم يعترف للعدوبأحد منهم .
الشهادة :
شهادة أمنية كبيرة في نفس سي حمود. يحدث بها صديقه الشيخ عبد الحميد جمادوش ،ويعبر له عن طيفها الذي يزوره من حين إلى حين في المنام ،حتى غدا كأنه حقيقة يراها عيانا. وفي السجن أصبحت أمنية الشهادة رفيقته، بل أصبحت في السجن أكثر قربا ووضوحا،وتحققا من ذي قبل . لكن كيف ؟ لقد جاء إلى السجن من قبله كثير من الثوار . وهاهم باقون هنا ، فكيف لهم بالشهادة ؟ لكن ما سِر ذلك الطيف الذي لايفارقه في منامه ؟ كم من العلماء ؟وكم من الشيوخ الكبار تحدثوا عن أناس تحققت لهم رؤاهم ؟ أفلا يمكن أن تتحقق رؤيته هو أيضا ؟
وكانت يد القدر تعمل في الخفاء في اتجاه تحقيق أمنية سي حمود . هذا أحد المتساقطين الناكصين على أعقابهم يلجأ إلى عساكر الاستعمار الفرنسي ويكشف لهم عن بعض أسرار الثورة ورجالها ،وكان سي حمود من بين ضحاياه ويعطيهم الدليل على أن سي حمود كان مسؤول السر في الثورة . وأنه كان على معرفة تامة بالمجاهدين الذين مروا أمام عينيه ولم يشهد على أحد منهم .وبذلك تمت إدانة سي حمود وحكمت عليه محكمة عسكر فرنسا بالإعدام .
وفي ليلة استشهاده المشهودة من يوم 1959/06/11 جاء به العدو ليلا مكبَّلا إلى قرية المزارة . حيث كان لقاؤه الأخير بأفراد عائلة الشيخ المسعود قرقور، الذين داهم العدو بيتهم ،وهدم بدبابته فناء الدار ، وأخرج من كان فيها من الرجال والنساء و الأطفال . يقول الأخ أحمد قرقور- بكر الشيخ المسعود، وكان يومها في بداية عقده الثاني من العمر- يقول :"سلَّم علينا سي حمود جميعا وقال لنا :" بلِّغوا سلامي إلى جميع أهل العرش .وقولوا لهم :إن سي حمود يقول لكم : أنه لم يؤذ أحدا ،ولم يعترف للعدو بأحد ،وأن العدو قد حكم عليه بالإعدام ". وطلب شربة ماء، يبلل بها ريقه، ويزيل بها غصة العذاب، ويضيف الأخ أحمد قرقورقائلا :فأسرعت إلى البئر وناولته الدلو ليشرب ، فما كاد يروي ظمأه حتى انهال عليه أحدجنود العدوالمحيطين به ضربا مسقطا الدلو من يده قائلا له :لن تشرب بعد الآن أبدا .فكان رد سي حمود :"إذا لم أشربه هنا فسأشربه في الجنة إن شاء الله " .
واقتادوا جميع أفراد العائلة ، وأدرك سي حمود أن العدو يريد الانتقام من الجميع ، فرفع رأسه وَوَجَّهَ كلامه لقائد كتيبة العدو : أيها القائد : لا تقتل النساء والأطفال بجريرة الرجال فتدنس علم بلادك فرنسا ، فما كان من العدو إلاَّ أن أمر جنوده بإطلاق سراح النساء . وبقي سي حمود رفقة الطفل أحمد قرقور ،فكرر سي حمود نداءه للعدو قائلا :أيها القائد مرة أخرى أقول لك لاتدنس علم بلادك بقتل الأطفال ،فأطلق العدو الطفل أحمد قرقور . فتنفس سي حمود الصعداء؛ أنه استطاع أن يؤثر في نفس قائد العدو، ويمنع جريمة بشعة كادت تقع بقتل النساء والأطفال، ويقي هو بين جنود العدو المدججين بالسلاح يواجه مصيره .
خرجوا به ثابت الخطو رغم القيود، شامخا مرفوع الهامة، يوشح وجهه نور الشهادة ،وعلى لسانه شهادة " لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله " حينا ، والتكبير حينا آخر . وكان القدر الذي اختط له هذه الشهادة، قد اختط له أيضا البقعة الطاهرة التي ستصعد منها روحه البريئة إلى ربها، ويروي بدمائه تربتها التي ستبقى طاهرة إلى الأبد رغم أنف كل المتساقطين، ورغم أنف كل بقايا فرنسا في الجزائر .
وفي البقعة التي أقيم عليها مسجد قرية لمزارة الحالي (على رواية سي عبد القادر فني ) أو على مسافة منها شرقا (على رواية الأخ أحمد قرقور )،أطلق جنود العدو وابلا من الرصاص على جسد سي حمود الطاهر، سقط إثرها شهيدا ،وفاز بأمنيتة الغالية رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه .
بقلم : الشيخ الزبير حمادوش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق